فصل في المغلطات في القياس
إن هذه المغلطات إما تقع في اللفظ وإما تقع في المعنى وإما أن تقع في صورة القياس وإما أن تقع في مادته وإما أن تكون غلطاً وإما ان تكون مغالطة ونحن نعلم أنه إذا ترتبت الأقاويل القياسية ترتيباً على شكل من الأشكال وكان هناك أجزاء أولى متمايزة أعني المقدمات الحدود وأجزاء ثواني متمايزة وكان الضرب من الشكل منتجاً والمقدمات صادقة وغير النتيجة وأعرف منها أن ما يلزم عنه يلزم لزوماً حقاً فإذا القول الذي لا يلزم عنه الحق أعني القياس السوفسطائي إما أن لا يكون ترتيبه بحسب شكل من الأشكال أو لا يكون بحسب ضرب منتج أو لا تكون هناك الأجزاء الاول أو الأجزاء الثواني متمايزة وإما أن لا تكون المقدمات صادقة وإما أن لا تكون غير المطلوب وإما أن لا تكون أعرف منه فأما الأول فهو إما أن لا يكون تأليفه من أقاويل جازمة أو يكون من جازم واحد فقط أو يكون من جوازم فوق واحد إلا أنها عادمة للاشتراك التأليفي - وذلك على وجهين إما ان يكون عدمها للاشتراك في الحقيقة والظاهر جميعاً وإما ان يكون في الحقيقة فقط ولها في الظاهر اشتراك فإن كان لها في الظاهر اشتراك فهناك لفظ يفهم منه معان فوق واحدة فيكون إما بحسب بساطته وإما بحسب تركيبه وإذا كان بحسب بساطته فإما أن يكون لفظاً مشتركاً وهو الواقع على عدة معان ليس بعضها أحق به من بعض كالعين الواقع على ينبوع الماء وعلى آلة البصر والدينار ومن جملة ذلك ما قد يسمى لفظاً مشككاً وهو المتناول الشيء وضده كالحليل والناهل وإما أن يكون لفظاً مشابهاً وهو الواقع على عدة متشابهة الصور مختلفة في الحقيقة لا يكاد يوقف على تخالفها كالناطق الواقع على الانسان. والفلك والملك والحي الواقع على الآلة والانسان والنبات وكل ما له نمو وحركة في جوهره. وإما لفظاً منقولاً وهو الواقع على عدة بمعان عدة ولكن وقوعه على أحدها أقدم على أن المتأخر مسمى به على الحقيقة كلفظة المنافق والفاسق والكافر ولفظة الصوم والصلاة - وإما لفظاً مستعاراً وهو الذي أخذ للشيء من غيره من غير أن ينقل في اللغة فجعل اسما له على الحقيقة وإن كان في الحال يراد به معناه كقول القائل إن الأرض أم للبشر وأما لفظاً مجازاً وهو الذي يطلق في الظاهر على الشيء والمطلق به عليه في الحقيقة غيره كقول القائل سل القرية أي أهلها وربما كان اللفظ المشترك ليس للاشتراك هذه الأحوال في جوهره بل في صيغته وأحواله كاللفظ المشترك بين الفاعل والمفعول والذكر والأنثى وما جرى مجراه ولهذا ظن بعض ضعفاء الظن أن الهيولى
الصفحة : 79
الأولى قد يستحق أن يقال إنها تفعل فعلاً ما لأنها قابلة للتأثير والقبول فعل وأما الذي يكون بحسب التركيب فقد يكون لاستناد حروف النسق إلى أشياء مختلفة كقول القائل كل ما علمه الحكيم فهو كما علم فإن المعطوف بالفاء هو ههنا ينعطف على كل ما وعلى الحكيم وبحسبه يختلف المعنى: وقد يكون لتغيير الترتيب الواجب ويكون لمواضع الوقف والابتداء وقد يكون لاشتباه حروف النسق أنفسها ودلالتها على معاني عدة في النسق - ولهذا قد يصدق الشيء مجتمعاً فيظن أنه قد يصدق مفترقاً فيقال إن الخمسة زوج وفرد معاً إذ هم ثلاثة واثنان فينتقل الوهم إلى أن الخمسة زوج والخمسة أيضاً فرد والسبب فيه اشتباه دلالة الواو فإنه قد يدل على جمع الأجزاء وقد يدل على جمع الصفات ويصدق الشيء مفترقاً ولا يصدق مجتمعاً كقول القائل زيد طبيب ويكون جاهلاً في الطب: وزيد بصير ويكون كذلك في الخياطة فإذا قيل زيد بصير طبيب لفهم الغلط لاشتباه الحال بين اشتراك البصر في الطب بحسب هذا اللفظ وبين انفراده بنعت زيد. وأما السبب الثاني وهو عدم التمايز في أجزاء القول القياسي فإنه لا يتهيأ فيما تكون الأجزاء الاولى فيه بسايط بل فيما يكون فيه ألفاظاً مركبة: ثم ينقسم قسمين. فإما أن يكون أجزاء المحمول والموضوع متمايزة في الوضع ولكن غير متمايزة في الاتساق وإما أن لا تكون متمايزة في الوضع فيكون هناك شيء هو من الموضوع فيوهم أنه من المحمول أو من المحمول فيوهم أنه من الموضوع. مثال المتمايز في الوضع دون الانساق قول القائل كل ما علمه الفيلسوف فهو كما علمه. والفيلسوف يعلم الحجر فهو إذاً حجر: ومثال الغير المتمايز في الوضع قول القائل الانسان بما هو إنسان إما أن يكون أبيض أو لا يكون أبيض فقوله بما هو إنسان يشكك أهو جزء من الموضوع أو من المحمول فلا يبعد أن يقع من هذا وأمثاله مغالطات يصعب حلها وقد تعرض هذه المغالطة في جميع أنحاء التركيب المتشابه وأما الكذب في المقدمات فلا محالة أن الطبع إذا أذعن للكاذب فإنما يذعن بسبب ما ولأن له نسبة إلى الصدق في حال ومن بلغ إلى أن يصدق بأي شيء اتفق بلا سبب فقد انخلعت عنه الغريزة البشرية فإذا ذلك السبب إما لفظه وإما معناه والذي في اللفظ فيظهر مما سنذكره وذلك مثل اشتراك معنيين في لفظ يوهم التساوي بينهما في كل حكم ومثل اشتراك لفظتين في معنى وافتراقهما في معنى معتبر في اللفظ فإنه إذا كان كذلك أوهم ذلك أن الحكم في اللفظتين واحد ورما كان لاحدى اللفظتين زيادة معنى يتغير به الحكم ومثال هذا الخمر والسلافة فإن معنى واحداً قد اشترك فيه هذان الاسمان ثم للسلافة زيادة معنى وأما
الصفحة : 80
الذي من جهة المعنى فلا يخلو إما أن يكون الكاذب كاذباً بالكل وهو الذي لا يصدق الحكم فيه فلا يخلو إما أن يكون الكاذب كاذباً في الجزء وهو أن يكون الحكم فيه يصدق على شيء من موضوعه ولا في حال من الأحوال ولا في وقت من الأوقات وإما أن يكون كاذباً في الجزء وهو أن يكون الحكم فيه يصدق على شيء من الموضوع أو في وقت أو حال فإن كان كاذباً في الكل فينبغي أن يكون له شركة مع الصادق في المعنى - وذلك المعنى قد يكون جنساً أو فصلاً أو اتفاقاً في عرض أو اتفاقاً في مساواة النسبة وأنت تعلم أنه قد تكون شركة عامة فيما سوى الفصل والجنس فإنه قد يكون المشترك فيه عارضاً كلياً للموضوعين وقد يكون كلياً لأحدهما وفي بعض الآخر وقد يكون في بعض كل واحد منهما والذي لا يصدق لا في الكل فإما أن يكون في بعض الموضوع فقط أو يكون في كل واحد من الموضوع ولكن في وقت دون وقت أو يكون في كل وقت ولكن بشريطة لا على الاطلاق أو يكون على الاطلاق ولكن بشريطة ما وتلك الشريطة إما تأليف في القول أو غير التأليف في القول فإن لم يكن التأليف فيه فإما أن يكون إفراداً فيه وإما غير إفراد فيه وإن كان أيضاً عارضاً لبعض الموضوع فإما طبيعي وإما اتفاقي: وجميع هذا لايهام العكس فإنه إذا اتفق أن رأى سيالاً أصفر وكان مراً أعني المرة ثم اتفق أن رأى سيالاً أصفر غيرها ظن أنه مر وربما كان حلواً كالعسل وسبب ذلك أنه إذا وجدت المرة مرة ظن أن كل سيال أصفر مرة إذا كانت المرة سيالة صفراء وأما الذي يكون من جهة أن المقدمات ليست غير النتيجة فهو البيان الذي يكون بالمصادرة على المطلوب الأول في المستقيم والمصادرة على نقيض المطلوب في الخلف: وقد أشير إلى ذلك فيما قد سلف وأما الذي يكون من جهة أن المقدمات ليست بأعرف من النتيجة فيكون بالأشياء التي تساوي النتيجة في المعرفة والجهالة بها أو بالأشياء التي يتأخر عنها في المعرفة ويكون سبيلها سبيل القياس الدوري وقد أشير إلى ذلك فيما سلف ويجتمع من جملة هذا أن جميع أسباب المغالطة في القياس إما لفظي وإما معنوي واللفظي إما اشتراك في جوهر اللفظ المفرد أو اشتراك في هيئته وشكله أو اشتراك يقع بحسب التركيب لا بحسب لفظ مفرد أو لأجل صادق مركباً وقد فصل فظن صادقاً أو لأجل صادق تفاريق وقد ركبت فظن صادقاً وأما المعنوي فإما أن يكون بالعرض وإما من جهة سوء اعتبار شروط الصدق في الحمل وإما لعقم القرينة وإما لإيهام عكس اللوازم وإما للمصادرة على المطلوب الأول وإما لأخذ ما ليس بعلة علة وإما لجمع المسائل في مسألة فلا يميز المطلوب
الصفحة : 81
واحداً بعينه وقد اقتصرنا لك من علم المنطق على هذا القدر وقد عرفناك طريق نيل الصواب وهو القياس البرهاني والحد الحقيقي وطريق التحرز من الخطأ وهو مما عرفناك من المواضع التي يغلط فيها في المقاييس والحدود ولم نطول المنطق بذكر الأمور الخارجة عن هذين الغرضين وإن كانت لا تخلو عن نفع وهي مثل المواضع الجدلية وآلاتها واستعمالها ومثل المقاييس الخطابية ومواردها وكيفية التصرف فيها ومثل الأقاويل الشعرية ومواردها وأغراضها فإن أحببت أن تطلع على ذلك فاطلبه من كتابنا الذي يسمى بالشفاء.
تم قسم المنطق من كتاب النجاة ويليه القسم الثاني وهو الطبيعيات